[ ص: 339 ] كتاب الحجر
أما الحجر فهو من كلامهم المنع ، سمي به لأن المحجور عليه ممنوع من التصرف باختياره .
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " والأصل فيه قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء : 6 ] " ، قال الماوردي : فمعنى قوله ( ابتلوا ) أي اختبروا ، وقوله ( اليتامى ) هم الصغار الذين ليس لهم آباء ؛ لأن اليتم في الآدميين بموت الآباء وفي البهائم بموت الأمهات ، لأن البهيمة تنسب إلى أمها فكان يتمها بموت الأم ، والآدمي ينسب إلى أبيه فكان يتمه بموت الأب ، وقوله حتى إذا بلغوا النكاح [ النساء : 6 ] يعني الاحتلام لأن بالاحتلام يتوجه إليه التكليف ويزول عنه اليتم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد حلم .
وقوله فإن آنستم أي علمتم منهم رشدا ، في الرشد ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه العقل وهو قول مجاهد والشعبي .
والثاني : أنه العقل والصلاح في الدين وهو قول السدي .
والثالث : أنه الصلاح في الدين والصلاح في المال وهو قول ابن عباس ، والحسن البصري ، وإليه ذهب الشافعي ، ثم قال تعالى : فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء : 6 ] يعني التي تحت أيديكم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا أي لا تأخذوها إسرافا يعني على غير ما أباح الله لكم [ ص: 340 ] وأصل الإسراف : تجاوز الحد المباح .
وبدارا أن يكبروا يعني تأكل مال اليتيم مبادرا أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله .
ثم قال تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف [ النساء : 6 ] يعني بمال نفسه عن مال اليتيم ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف اختلفوا في معنى هذا الأكل المباح للفقير على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه القرض ، يستقرض ثم يقضي إذا وجد وهو قول عمر وابن عباس وجمهور التابعين .
والثاني : أنه يأكل ما سد الجوعة ، ويلبس ما وارى العورة ولا قضاء ، وهو قول إبراهيم ، ومكحول ، وقتادة .
والثالث : أن يأكل من ثمره ويشرب من رسل ماشيته من غير تعرض لما سوى ذلك من فضة أو ذهب ، وهو قول أبي العالية والشعبي .
والرابع : أن يأخذ إذا كان محتاجا أجرة عمله معلومة على قدر خدمته ، وهو قول عطاء .
ومن الدلالة على الحجر أيضا قوله عز وجل : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] .
أما السفيه ففيه تأويلان :
أحدهما : أنه الجاهل بالصواب فيما له وعليه ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أنه المبذر لماله المفسد له في الجهات المحرمة ، وهذا أصح وإليه ذهب الشافعي لأنه أليق بمعنى اللفظ .
أما الضعيف ففيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الأحمق ؛ وهو قول مجاهد والسدي .
والثاني : أنه ضعيف الرأي والتدبير من صغر أو كبر .
والثالث : أنه الصغير الذي يضعف عن القيام بأمره والتصرف في ماله ، وإليه ذهب الشافعي .
" أما الذي لا يستطيع أن يمل هو " ففيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الأخرس ، وهو قول ابن عباس .
[ ص: 341 ] والثاني : أنه الممنوع بحبس أو غيبة .
والثالث : أنه المغلوب على عقله ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، لأن الخرس والغيبة لا يوجبان الحجر .
وأما قوله تعالى : فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] ففيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه يريد ولي الحق وهو صاحبه ، أن يعدل في إملائه ومطالبته بالحق ، وهو قول ابن عباس .
والثاني : أنه على ولي من عليه الحق فيما لزم من أرش جناية أو قيمة متلف ، وهذا قول الضحاك .
والثالث : أن معنى الآية في قوله تعالى : فإن كان الذي عليه الحق [ البقرة : 282 ] بمعنى الذي له الحق فأقام عليه بمعنى له ، لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام بعض ، فدلت هاتان الآيتان على الحجر .
أما الآية الأولى فوجه الدليل منها أنه لما أمر بدفع أموال اليتامى بوجود شرطين وهما : البلوغ والرشد ، اقتضى أن لا يدفع إليهم أموالهم قبل وجود هذين الشرطين ، وهذا هو الحجر .
وأما الآية الثانية فوجه الدليل منها أنه لما أمر بالإملاء عن السفيه والضعيف دل على أن ذلك يمنعهم من التصرف واستحقاق الولاية عليهما .
وأما السنة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه حجر على معاذ بدينه ) فلما أوقع الحجر لحق الغير كان وقوعه لنفسه أولى .
وروي أن قوم حبان بن منقذ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه لأنه كان يخدع في بياعاته ، فحجر عليه حجر مثله ولم يجعل عقوده منبرمة ، وجعل له خيار ثلاث ، وقال له : إذا ابتعت فقل لا خلابة في الإسلام ، وأما الإجماع فهو ما كان من حديث عبد الله بن جعفر حين سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عثمان بن عفان أن يحجر عليه ، وإجماع باقي الصحابة على جواز الحجر حتى كان من شأن عبد الله ما سنذكره .


