الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أحب أخذ شيء من والدي لشعوري بأنه يهملني، فما توجيهكم؟

السؤال

السلام عليكم.

أنا حزينة لأني تصالحت مع أبي، هو لم يكن يريد أن يكلمني، أو يصالحني لو لم أكلمه أولاً، ولست قادرةً على أن أتعامل مع فكرة أنه لم يكن ليكلمني لو لم أكلمه، وأصبحت كارهةً لأي منفعة منه لي، وأريد التخلص منها، حتى النقود التي أعطاها لي، أشعر بالضيق؛ لأنني أخذتها بعد أن كلمته، وأريد إرجاعها له؛ لأن إحساسي يخبرني بأنه لم يكن ليعطيني أي شيء لولا أنني كلمته، أنا متضايقة جدًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Ashima حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أسأل الله أن يشرح صدرك، ويزيل عنك ما تجدينه من ضيق وألم، أقدر مشاعرك تمامًا، وأتفهم أن الموقف الذي مررتِ به قد أثار في نفسك مشاعر مختلطةً من الحزن والغضب، وإن كنا نود لو أخبرتِنا بالمزيد من التفاصيل حول العلاقة بينك وبين والدك، وحول الأسباب التي أدت إلى هذا التوتر بينكما، ولكن دعينا نناقش الأمر من منظور إسلامي ونفسي، ونحاول معًا الوصول إلى السكينة والراحة.

في الإسلام، صلة الرحم من أعظم القربات التي يحبها الله، وقد أمرنا الله بها في كتابه الكريم، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء: 1)، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" (رواه البخاري)، هذا الحديث الشريف يوضح أن صلة الرحم ليست مبنيةً على مبدأ المعاملة بالمثل، بل هي عبادة وقربة إلى الله، حتى لو لم يبادر الطرف الآخر، وعندما بادرتِ بمصالحة والدك؛ فإنك قمتِ بعمل عظيم عند الله، وهو دليل على قوة إيمانك، ورغبتك في رضا الله.

حتى لو كان هذا الخلاف مع شخص آخر غير والدك، والذي يصل إلى الهجر، فلا يجوز هذا الهجر أن يتسمر أكثر من ثلاثة أيام؛ فقد أخرج البخاري عن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، هذا مع شخص غريب غير قريب، فما بالك مع الشخص القريب، وما بالك لو كان هذا الشخص أحد الوالدين! ولذلك قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أعظم الناس حقًا عليك أبوك، وأعظم الناس حقًا على أبيك أنت"، وهذه الحكمة تذكرنا بأن العلاقة بين الأبناء والآباء علاقة تكاملية، وأن البر بالوالدين واجب حتى لو شعرنا بالخذلان أحيانًا. ولتحذري من الوقوع في العقوق، فلا يجوز لك هجران والدك، أو التعامل معه بالندية، أو المكافأة بحيث أنك لا تكلمينه إلا إذا كلمك، ولا تصالحينه إلا إذا بادر بالصلح، هذا لا يجوز في حق الوالد!

قال المقنع الكندي الشاعر:
"وإن الذي بيني وبين بني أبي ** وبين بني عمي لمختلف جدًا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدًا"

هذا البيت يعبر عن التسامح والعفو، حتى لو شعر الإنسان بالخذلان من أقرب الناس إليه.

خطوات عملية للتعامل مع مشاعرك:
• تذكري أن ما قمتِ به من مبادرة لمصالحة والدك هو عمل خالص لوجه الله، وليس انتظارًا لرد فعل منه، اجعلي نيتك دائمًا رضا الله، وستجدين الراحة في قلبك.

• إذا كنتِ تشعرين بالضيق، يمكنك التحدث مع والدك بطريقة هادئة وصادقة، وقولي له: إنك شعرتِ بالحزن؛ لأنه لم يبادر بالمصالحة، ولكنك اخترتِ أن تتجاوزي ذلك من أجل الحفاظ على العلاقة.

• حاولي أن تذكري نفسك بأن كل إنسان له نقاط ضعف، وأن والدك قد يكون لديه أسباب داخلية لم تمنعه من المبادرة، ولا تدعي هذه الأفكار السلبية تسيطر عليك.

• إذا كنتِ تشعرين بعدم الراحة تجاه المال الذي أعطاكِ إياه والدك، يمكنك استخدامه في عمل خير، أو صدقة جارية بنية البر بوالدك، هذا سيخفف من شعورك بالضيق، لكن لا تخبري والدك بذلك.

• أكثري من الدعاء بأن يرزقك الله السكينة والرضا، كأن تقولي مثلا: "اللهم اجعلني من الواصلين لرحمهم، واغفر لي ولأبي، واهدنا إلى ما تحب وترضى".

• من الطبيعي أن تشعري بالخذلان عندما لا تجدين التقدير الذي تتوقعينه، ولكن تذكري أن العلاقات الأسرية ليست دائمًا متوازنةً، وأن المبادرة بالخير تعود بالنفع على النفس قبل الآخرين.

• تذكري أن التسامح ليس ضعفًا، بل هو قوة تمنحك الطمأنينة والرضا.

• فكري في اللحظات الجميلة التي جمعتك بوالدك، وحاولي أن توازني بين مشاعرك السلبية والإيجابية تجاهه.

أختي الكريمة: تذكري إن الله يحب العافين عن الناس، وبمبادرتك قد فتحت بابًا للخير والبركة في حياتك، أسأل الله أن يرزقك السكينة والرضا، وأن يبارك في علاقتك بوالدك.

"اللهم اجعلنا من الواصلين لأرحامنا، واغفر لنا ولآبائنا، واهدنا إلى صراطك المستقيم، واملأ قلوبنا بالحب والرحمة"، وإذا شعرتِ أنك بحاجة إلى دعم إضافي، فلا تترددي في طلب المساعدة من مستشار نفسي، أو شيخ موثوق.

وفقك الله لكل خير، وبارك فيك، وفي عائلتك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً