قوله : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات العامل في الظرف مضمر وهو : " اذكر " ، أو : " كريم " ، أو : " فيضاعفه " ، أو العامل في " لهم " وهو الاستقرار ، والخطاب لكل من يصلح له ، وقوله : يسعى نورهم في محل نصب على الحال من مفعول " ترى " ، والنور هو الضياء الذي يرى بين أيديهم وبأيمانهم وذلك على الصراط يوم القيامة ، وهو دليلهم إلى الجنة .
قال قتادة : إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه .
وقال الضحاك ، ومقاتل : وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها ، فكتبهم بأيمانهم ، ونورهم بين أيديهم .
قال الفراء : الباء بمعنى في : أي في أيمانهم ، أو بمعنى عن .
قال الضحاك أيضا : نورهم هداهم وبأيمانهم كتبهم ، واختار هذا ابن جرير الطبري : أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم ، وفي أيمانهم كتب أعمالهم ، قرأ الجمهور بأيمانهم جمع يمين .
وقرأ سهل بن سعد الساعدي ، وأبو حيوة " بإيمانهم " بكسر الهمزة على أن المراد بالإيمان ضد الكفر ، وقيل هو القرآن ، والجار والمجرور في الموضعين في محل نصب على الحال من نورهم : أي كائنا بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بشراكم مبتدأ ، وخبره " جنات " على تقدير مضاف : أي دخول جنات ، والجملة مقول قول مقدر : أي يقال لهم هذا ، والقائل لهم هم الملائكة .
قال مكي : وأجاز الفراء نصب " جنات " على الحال ، ويكون " اليوم " خبر " بشراكم " وهذا بعيد جدا خالدين فيها حال مقدرة ، والإشارة بقوله : ذلك إلى النور والبشرى ، وهو مبتدأ وخبره هو الفوز العظيم أي لا يقادر قدره حتى كأنه لا فوز غيره ، ولا اعتداد بما سواه .
يوم يقول المنافقون والمنافقات " يوم " بدل من " يوم " الأول ، ويجوز أن يكون العامل فيه " الفوز العظيم " ، ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر : أي اذكر للذين آمنوا اللام للتبليغ كنظائرها .
قرأ الجمهور انظرونا أمرا بوصل الهمزة وضم الظاء من النظر بمعنى الانتظار أي : انتظرونا ، يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة .
وقرأ الأعمش ، وحمزة ، ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار : أي أمهلونا وأخبرونا ، يقال أنظرته واستنظرته : أي أمهلته واستمهلته .
قال الفراء : تقول العرب أنظرني : أي انتظرني ، وأنشد قول عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا
وقيل معنى " انظرونا " : انظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنورهم نقتبس من نوركم أي نستضيء منه ، والقبس : الشعلة من النار والسراج ، فلما قالوا ذلك قيل ارجعوا وراءكم أي قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجرا لهم وتهكما بهم : أي ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فالتمسوا نورا أي اطلبوا هنالك نورا لأنفسكم ، فإنه من هنالك يقتبس ، وقيل المعنى : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة ، وقيل أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكما بهم فضرب بينهم بسور السور : هو الحاجز بين الشيئين ، والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار ، أو بين أهل الجنة وأهل النار .قال الكسائي : والباء في بسور زائدة .
ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال : له باب باطنه فيه الرحمة أي باطن ذلك السور .
وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرحمة وهي الجنة وظاهره وهو الجانب الذي يلي أهل النار من قبله العذاب أي من جهته عذاب جهنم ، وقيل إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة .
والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور ، وقيل إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين .
ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك فقال : ينادونهم ألم نكن معكم أي موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم ، والجملة مستأنفة كأنه قيل : فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين ؟ فقال : ينادونهم ، ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال : قالوا بلى أي كنتم معنا في الظاهر ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وإبطان الكفر .
قال مجاهد أهلكتموها بالنفاق ، وقيل بالشهوات واللذات وتربصتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمن معه من المؤمنين حوادث الدهر ، وقيل تربصتم بالتوبة ، والأول أولى وارتبتم أي شككتم في أمر الدين ولم تصدقوا ما نزل من القرآن ولا بالمعجزات الظاهرة وغرتكم الأماني الباطلة التي من جملتها ما كنتم فيه من التربص ، وقيل هو طول الأمل ، وقيل ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين .
وقال قتادة : " الأماني " هنا غرور الشيطان . وقيل الدنيا ، وقيل هو طمعهم في المغفرة ، وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأماني حتى جاء أمر الله وهو الموت ، وقيل نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : هو إلقاؤهم في النار وغركم بالله الغرور قرأ الجمهور الغرور بفتح الغين ، وهو صفة على فعول ، والمراد به الشيطان : أي خدعكم بحلم الله وإمهاله الشيطان .
وقرأ أبو حيوة ، ومحمد بن السميفع ، وسماك بن حرب بضمها وهو مصدر .
فاليوم لا يؤخذ منكم فدية تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون ولا من الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا مأواكم النار أي منزلكم الذي تأوون [ ص: 1458 ] إليه النار هي مولاكم أي هي أولى بكم ، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان ثم استعمل في من يلازمه ، وقيل معنى مولاكم : مكانكم عن قرب ، من الولي وهو القريب .
وقيل إن الله يركب في النار الحياة والعقل ، فهي تتميز غيظا على الكفار ، وقيل المعنى : هي ناصركم على طريقة قول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع
وبئس المصير الذي تصيرون إليه وهو النار .وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود يسعى نورهم بين أيديهم قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويوقد أخرى .
وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا ، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة ، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذ انظرونا نقتبس من نوركم فإنا كنا معكم في الدنيا ، قال المؤمنون : ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور .
وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا ، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون انظرونا نقتبس من نوركم وقال المؤمنون ربنا أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا وفي الباب أحاديث وآثار .
وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت : أنه كان على سور بيت المقدس فبكى ، فقيل له ما يبكيك ؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله في القرآن فضرب بينهم بسور هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة المسجد وظاهره من قبله العذاب يعني وادي جهنم وما يليه .
ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال ، ولا سيما بعد زيادة قوله : " باطنه فيه الرحمة " المسجد ، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه ، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين ، وأي معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا ، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس ، ويجعله في الدار الآخرة سورا مضروبا بين المؤمنين والمنافقين ، فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرحمة بالمسجد ، وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد ويجعل المنافقين خارجه ، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس ، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه وآمنا به ، وإلا فلا كرامة ولا قبول .
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : ولكنكم فتنتم أنفسكم قال : بالشهوات واللذات وتربصتم قال : بالتوبة وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله قال : الموت وغركم بالله الغرور قال : الشيطان .


