( فصل ) [1]
قال الرافضي [2] : " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 486 ] مرض موته ، مرة بعد أخرى ، مكررا لذلك : أنفذوا [3] جيش أسامة ، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة ، وكان الثلاثة معه ، ومنع أبو بكر وعمر من ذلك " .
والجواب : أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة [4] ، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة ، وإنما روي ذلك في عمر ، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة ، وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه ، وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الاثنين ، اثني عشر يوما ، ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ، ولم تكن الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة ولا صلاتين ، ولا صلاة يوم ولا يومين ، حتى يظن ما تدعيه الرافضة من التلبيس ، وأن عائشة قدمته بغير أمره ، بل كان يصلي بهم مدة مرضه ، فإن الناس متفقون [5] على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل بهم في مرض موته إلا أبو بكر ، وعلى أنه صلى بهم عدة [6] أيام . وأقل ما قيل : إنه صلى بهم سبعة عشرة صلاة ، صلى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة ، وخطب بهم يوم الجمعة . [ ص: 487 ] هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة ، ولم يزل يصلي بهم إلى فجر يوم الاثنين : صلى بهم صلاة الفجر ، وكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - الستارة ، فرآهم يصلون خلف أبي بكر ، فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ، ثم أرخى الستارة . وكان ذلك آخر عهدهم به ، وتوفي يوم الاثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال .
وقد قيل : إنه صلى بهم أكثر من ذلك من [7] الجمعة التي قبل [8] فيكون قد صلى بهم مدة مرضه كلها ، لكن [9] خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة واحدة لما وجد خفة في نفسه ، فتقدم وجعل أبا بكر عن يمينه فكان أبو بكر يأتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - [10] ، والناس يأتمون بأبي بكر ، وقد كشف الستارة يوم الاثنين صلاة الفجر ، وهم يصلون خلف أبي بكر ، ووجهه - صلى الله عليه وسلم - كأنه ورقة مصحف ، فسر بذلك لما رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر ، ولم يروه بعدها .
وقد قيل : إن آخر صلاة صلاها كانت خلف أبي بكر . وقيل : صلى خلفه غيرها .
فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس ؟ !
[ ص: 488 ] وأيضا فإنه جهز جيش أسامة قبل أن يمرض ، فإنه أمره على جيش عامتهم المهاجرون ، منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا [11] ثلاثة آلاف ، وأمره أن يغير على أهل مؤتة ، وعلى جانب فلسطين ، حيث أصيب أبوه ، وجعفر ، وابن رواحة ، فتجهز أسامة بن زيد للغزو ، وخرج في ثقله إلى الجرف ، وأقام بها أياما لشكوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة فقال : " اغد على بركة الله والنصر والعافية . ثم أغر [12] حيث أمرتك أن تغير " قال أسامة : يا رسول الله ، قد أصبحت ضعيفا ، وأرجو أن يكون الله قد عافاك ، فأذن لي فأمكث حتى يشفيك الله ، فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة ، وأكره أن أسأل عنك الناس " فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بأيام ، فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش ، غير أنه استأذنه في [13] أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة ; لأنه ذو رأي ناصح للإسلام ، فأذن له ، وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأصاب في ذلك [14] العدو مصيبة عظيمة ، وغنم هو وأصحابه ، وقتل قاتل أبيه ، وردهم الله سالمين إلى المدينة .
[ ص: 489 ] وإنما أنفذ جيش أسامة أبو بكر الصديق بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : لا أحل راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفا عليهم ، فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه ، فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان ذلك مما أيد الله به الدين ، وشد به قلوب المؤمنين ، وأذل به الكفار والمنافقين ، وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق ، وإيمانه ويقينه وتدبيره [ ورأيه ] [15] .


